شعرية اللغة وأزمة المدينة في رواية القوس والفراشة لمحمد الأشعري (ج2)
ذ. الكبير الداديسي - ميادين أسفي
لا
يختلف اثنان حول كون لغة (القوس والفراشة ) لغة شعرية ؛ تتضمن كلمات وإشارات سميكة
تحمل في طياتها تاريخا وشبهة وافتداء ثانويين [1]،
لغة تمتص وتمتح من نظام معجمي مثخن حتى
الثمالة بالإحالات لتكون لنفسه عالما هاربا من جيولوجيا الرواية مما يجعلها رواية
متشظية تحاول كل الشظايا إضاءة زاوية
معتمة من واقع منشطر ، حاولت فيه اللغة تعتيم صورة واقع المدينة الموسوم بنوع من
التفكك والتصدع قد يضيع معه الخيط الرابط لدى القارئ بين أصوات شخصيات الرواية
والأمكنة التي يطوح فيها بالبطل دون سبب أحيانا فتكون شهادة كشفه للواقع شهادة
مزيفة ، شهادة حالمة تحمل بطراوة الرؤية في لغة تهرع نحو شعرية تركب صهوتها
لمحاربة اللغة السلفية المحنطة معبرة عن تمزق الذات في مجتمع متمزق أصلا ، فيشعر القارئ أن لغة الرواية لغة مذنبة تسعى
للتخلص من آثامها بالاستحمام في شعرية سريالية تلوي أعناق المتناقضات وتبني عالما
غرائبيا الناس فيه (يتلذذون بسفك دماء الأحد لتنتقم باقي الأيام بطيئة تجتم على
الصدور ، في بلد يمشي دون أ يلتفت حتى
للذين يسقطون من عرباته المفتوحة، بلد يصغر بطرق خاوية تنمو حولها أناشيد القرب و
فك العزلة و أوراش الأكل التي تلتهم عمر النساء أهم أوراشه فتصبح الشياطين ضرورية في الحياة لأنها لو لم
تكن لما كان الناس في حاجة إلى أنبياء وعبادة ... فيفقد المرء الثقة في كل شيء ولم
تعد اية قضية قادرة على تحريك إحساس يوسف الذي غدت القضية الفلسطينية تبدو له
يبابا، وحقوق الإنسان خواء ،والقومية العربية خراء ... في مدينة تنام باكرة
يفترسها الفراغ ليلا ، والشمس فرن يلف هذه المدينة الطنجية ويطهوها على صهد ثقيل
.. هنا تحط الوجوه المسلوقة رحالها .... أية لغة شعرية هاته ؟؟ وما يخفي هذا
التنميق اللغوي؟؟ و
هل تساعد الشعرية على ( إقصاء البذاءة أو الابتدال وتقريب المنتوج الأدبي من
ماهية الجنس الأدبي الذي ينتمي إليه على حد تعبير
جورج لوكاتش؟؟[2]
تحت هذا
الخمار اللغوي تختب واقع بدون ملامح بطله
إنسان تفرقت به السبل ، فبدا منهكا
يحاول اللرقص على أوتار السياسية، الصحافة،
الفن في مدن ودول فأنهكه الجري وراء السراب، فقد كل إحساس وأمل في تغيير واقع فأعلن
الحرب على أوهامه وشرع في نفس الوقت يبحث عن معنى جديد لحياته. مثقف ليست
لديه مشاكل مادية و لا يحس بأي ذنب جراء ذلك. لكنه متخن بالمشاكل المعنوية حتى
الثمالة... جرب الاعتقال ورفض وإن لم يجعل
منه وسيلة للتملق وولوج إلى عوالم الوجاهة كما فعل كثيرون غيره. هزت حياته
رجات كثيرة ، ترصده الموت في أكثر من محطة ( انتحار أمه، مقتل ابنه في عملية
انتحارية بأفغانستان، موت صديقه، موته ، هو نفسه، ربما، في آخر الرواية
حينما سعى إلى أن يحول دون أن يفجر أحدهم نفسه…).
تبدأ الرواية معلنه فقد
البطل/ السارد حاسة الشم والإحساس (لم أعد
أحس بأي شيء) فانخرط باحثا عن الشهوة في الجنس والسفر والخمر والكتابة
معتبرا الحياة ورطة محاولا جعلها ورطة
مقبولة معتبرا الناس فسيفساء إلى الأبد وفي حجر زاوية حياة يتصارع فيها الغربان
والفراشة لتحقيق معجزات الحياة الصغيرة وفق تفاصيل دقيقة نسج خيوطها سارد وفق نظام
علائقي شاعري... تلعب في اللغة الانزياح روابط تلوي أعناق المتناقضات تجعل الشيء
المعنوي موغلا في المادية ، والمكان الضيق رحبا شاسعا لا حدود له ، والجسد أرض متنوعة تضاريسها ومناخها ، لنستمع للسارد
يصف في صورة مركبة متناقضة الأطراف كيف اجتمعت كل هذه الصفات والأفعال في جسد واحد:
( تخيلت عبير جسدها... لما جست تفاصيل
بشرتها البيضاء متنقلا من مساحات باردة راعشة إلى مساحات دافئة نابضة، ثم عندما
ضممتها وأفلتّها، عندما استلقت، عندما استدارت عندما انفرجت عندما التفتت، عندما
أساحت،عندما أنكفأت، عندما استعصت، عندما لانت، عندما انتفضت ،عندما أرسلت أصابعها،إلى
أقصى النداءات،عندما هدأت ،عندما غابت، عندما تأوهت،عندما صرخت ، عندما قالت نعم
نعم،هكذا... ) [3]
إذا كانت أحداث رواية القوس والفراشة تحكي حياة ثلاثة
أجيال من عائلة الفرسيوي،
معتمدة أحداثا تاريخية، ووقائع سيرية ، وإحالات سايسية
اجتماعية .. فإنها تنفتح على عوالم كثيرة
من الفنون خاصة :الشعر، النحث، العمارة ، المقالة ، الرسالة، الغناء... وهو وسم
أحداث الرواية بسمات شعرية فنية : فبطل الرواية وسارد أحداثها يوسف بن ديموتيا ،
وهذا الأسم يقطر شعرية في الثقافة الإنسانية القديمة :( فالاسم يحيل على أول
فيلسوفة متدوقة للشعر والجمال ذلك أن ديموتيا هي التي اجرت حواراً مع سقراط حول الحب العذري وهو الحوار الذي
دوَّنه أفلاطون في ''محاورة المأدبة'' الشهيرة...) أو الثقافة الحديثة ذلك
أن الاسم يحيل على محبوبة الشاعر الألماني هولدرلين فقد ورد أن هولدرلين عمل معلما لأبناء أحد الأثرياء بين 1795-1798 في فرانكفورت، فتعلق بزوجته
الجميلة جداً فظهرت في اشعاره بالإسم اليوناني ديوتيما Diotima –الكاهنة التي علمت سقراط
الحكمة- و لما عرف الزوج بهذه العلاقة خسر الشاعر وظيفته وأبعد عن محبوبته، مما
سبب له ألماً شديداً قاده إلى الجنون فقضى السنوات الست والثلاثين الأخيرة من عمره في
مستشفى الأمراض العقلية حتى وفاته عام 1843. هذه القصة الرومانسية والشاعرية تكاد
تتكرر أحداثها في رواية القوس والفراشة.. ذلك أن الجد محمد الفرسيوي تزوج بديوتيما
الفتاة الألمانية الرقيقة الرشيقة حفيدة
الشاعر الألماني الكبير (هانس رودر) بدأت حياتها بتجربة حب عميقة وانتهت منتحرة
جثة (ممدة بلا جمجمة قبالة ضريح المولى إدريس الأول غير بعيدة عن الأطلال
الرومانية )[4]
لوليلي ... كان كل همها في حياتها العثور
على ديوان شعري لجدها هانس رودر الذي دفنه في أطلال وليلي (عندما عاش وشارك في
حفريات موقع روماني ) [5]
وقد شكل هذا الديوان الشعري حافزا وقوة فاعلة ساهمت في تطور أحداث الرواية.. كما شكل
هذا الديوان وحده بؤرة تلتئم حولها عدة
أحداث شعرية كثيرة تتعلق بالذات الساردة وشخصيات أخرى خاصة أبويه، حتى وإن لم تصور
الرواية متى وكيف تم العثور على ذلك الديوان
فإنها أشارت إلى أن صدوره كان بعد وفاة ديوتيما فشكل (حدث الموسم الثقافي في
ألمانيا (ألمانيا أمة شعرية عظيمة ))[6]
وقد اختار السارد أن يضمنه قصدتين له في
الرثاء الأولى في رثاء جوبا الثاني ،
والثانية في رثاء ديوتيما.. مع الإحالة على أن (المقدمة تقول أنهما أروع قصائد
المجموعة) ليعلق السارد على فعله ذلك قائلا ( هو دفن قصائده في وليلي ، وأنا دفنت
قصائدي في قصائده لا أحد يعرف أبدا ماذا يوجد تحت الأنقاض وماذا يغلي فوقها)[7]
ليتضح أن الشعر كان حاضرا بقوة في الرواية ...
ومثلما كانت
ديوتيما معلمة الحكمة لسقرط قديما .. و ديوتيما محدثة لزلزال في كيان الشاعر
هولدرلين حديثا ... فإن ديوتيما في العالم المتخيل للرواية حاولت أن تحدث خلخلة
بالفضاء الذي نزلت به.. فقد عملت على (أن تنشئ مؤسسات لمساعدة النساء، وتلقيح
الأطفال، ومحاربة انقطاع الفتيات عن التمدرس ، والتوعية الصحية ، تذهب إلى
الدواوير لتقضي اليوم كله تطوف في تجمعات
سكنية ينام أصحابهما مع الأبقار والماعز، ويتغوطون خلف أفرانهم والكلاب والفئران
الضخمة تتخطف فضلاتهم الساخنة من تحتهم.. وهناك (ترعى) مشاريع لمعالجة النفايات
ومحاربة الأوبئة ومعالجة المياه والينابيع ، وجمع البلاستيك وتشجيع المحافظة على
كروم المنطقة وأصناف فاكهتها المهددة بالانقراض..)[8]
رغم كل هذه الشعرية الرومانسية لهذه البطلة التي قدمها السارد ( ابنها) كمنقذة
لهذه المنطقة النائية ، كل هذه الأعمال النبيلة ، والأفعال الخيرة ، لم تفلح في (
إكسابها ولو ذرة واحدة من المودة الإنسانية . لا أحد سواء وصله بعض من خيرها أم لم
يصل حمل لها في قلبه شرارة محبة أو امتنان أو عرفان أو تقدير)[9]
لقد قدمها
تقديما شاعريا سواء في بداية علاقتها بوالده الذي تزوجها عن حب، أو في أعمالها الخيرية ، أو
في رسم أبعادها الجسدية والنفسية ... وكان الشعر يوحد علاقتهما فقد تبنى السارد قضية البحث عن الديوان المفقود
متبنيا مشروع أمه يقول: ( أعتبر الكتاب وصية موجهة لي ، وليس إرثا تدبره ديموتيا
بمنطق النسب ،أنا المسؤول عن إنقاذ الشعر )،فأصبح الشعر جزءا من حياته يقول
مستخلصا علاقته بالشعر بعد حديث طويل:( هكذا نشأت علاقتي بالشعر فأصبحت أعثر عليه
أحيانا حتى وأنا أغير عجلة الميرسديس تحت الشمس وهكذا ولد الكتاب الضائع في
حياتي مرة أخرى كمغامرة تخصني وحدي دون اي
شخص آخر كان قريبا أم بعيدا من هانس رودر )[10]
وتستمر أحداث
الرواية تقطر شعرية من خلال الانفتاح على النحت والزخرفة وجعل الفسيفساء وتمثال
باخوس إله الخمر الوسيم عند الرومان محورا رئيسيا في أحداث الرواية في أحالة على
حدث تاريخي شهده موقع وليلي الأثري ، أرخه السارد بيوم السبت 9 ماي سنة 1982 عقب اختفاء هذا التمثال الرخامي من
الموقع واستغلال السارد الحدث لبناء وقائع روايته، جاعلا من سرقة التمثال حدثا
روائيا هاما حاضرا في عدد من فصول الرواية
منذ أشار إلى السرقة في الفصل الثاني ( في يوم السبت 9 ماي 1982 سرق تمثال باخوس
من مدخل وليلي،حيث كان يقف منذ عقود
بقامته الصغيرة ، وسمرته الخفيفة ،مراهقا في وضع واقف يتكئ على ساقه اليمنى...)[11]
إلى الفصل الأخير غداة افتتاح العمارة
(الفراشة) في كرنفال شاعري تفنن السارد في رسم أبعاده في لوحة قال فيها : ( غزت فيها آلاف الفراشات
سماء مراكش تقودها خيوط غير مرئية وآلاف العصافير الملونة وأسراب الحمام واليمام
ومئات النوق البيض تنقل ضيوف الحفل من فنادقهم إلى قاعة الحفلات.. كيف نزل شلال من
الماء الهادر من قمة العمارة حتى ساحتها الرخامية ، سيذكر الناس الجوق الفيلارموني
الذي جاء من برلين . وعشرات المطربين والمطربات الذين أحيوا السهرة .... وطاف على
المدينة مئات الرجال والنساء يحملون صحون التمر وكؤوس الحليب التي صنعها أحمد مجد
خصيصا للمناسبة وعليها اسم العمارة وموعد افتتاح سوقها الضخم...)[12]
في هذه الأجواء الشاعرية في الطابق التاسع
الذي جعِل شقة واحدة فخمة لأحد المخرجين الفرنسيين يظهر تمثال باخوس من جديد يقول
السارد ( هناك رأيته واقفا في وضع يطل على المدينة بنظرته الحالمة، وعنقود العنب
الحجري على كتفه ، بيده المكسورة وقامته المراهقة، بكل قتامة الكرانيت المطلة من
القرن الواحد قبل الميلاد ، قمت وتقدمت منه ، وفحصت قدمه اليسرى فوجدتها مبتورة من
أربعة أصابع هي التي ما تزال هناك في
قاعدة التمثال بمدخل وليل... صرخت أنه باخوس ، باخوس وليلي..)[13]
وتحضر الشعرية في الإشارة إلى الغناء والرقص بمختلف
شطحاته من عيساوة ،حمادشة ، إلى الملحون، الأجواق الفيلارونية ، المجموعات
الشبابية وموسيقى الهيب هوب .. مرورا بموسيقى الحانات والمطاعم إلى موسيقى المسارح
والسهرات العامة والخاصة في الفنادق والشقق المفروشة استمتع فيها البطل بكل لحظة ،
ورصد مواقف شخصياته من كل شكل تعبيري .. رغم وصفه للبلد على لسان أحد شخصيات القصة
بقول إبراهيم : (إننا بلد متزمت بشكل لا مثيل له.
انظر إلى الطريقة التي تتعامل بها مع الموسيقى والرقص والغناء. لم يوجد في بلادنا
صنف من هذه الفنون لم يتعرض للاحتقار والاضطهاد منذ العيطة إلى الهيب هوب)
وحتى يبين مدى استحالة عيش الإنسان دون شعرية ومشاعر،
حاول السارد أن يبرز على لسان نفس الشخصية أن مختلف التعبيرات الشعرية والفنية
تأتي بطريقة طبيعة ويصعب القضاء عليها ( ابتسم
إبراهيم وقال
: قلت
: إنك تبالغ، كل التعبيرات الفنية كانت طبيعية وتلقائية حتى حل الطاعون الظلامي
فحرم ما حرم وحلل ما حلل! ومع ذلك لم ينتصر على الرقص والغناء، بل استطاع فقط أن
يفرض الحجاب والعمرة على الشيخات) [14]
هذا
وقد تمكنت الرواية في بعض زواياها من طرح وجهات نظر مختلفة من الفنون كأغاني
الشباب بين مؤيد ومعارض: فقد كانت ليلى
(تعتقد أن هذه الأغاني باستثناء نفسها الساخر والمتمرد أحيانا فهي في غاية الرداءة
كلماتها سوقية وبدون خيال وموسيقاها بدائية وغير مكتملة ) فيما كان عصام يرى فيها
(تعبيرا عن هوية جديدة ،هوية المدن الحديثة التي ترزح تحت ثقل المتناقضات وتنام
على تهديد الخلايا النائمة ) ورأى مهدي أن جيل موسيقى الشباب غير مفهوم يعبر عن
رأيه مقارنا بين جيل اليوم وجيل الأمس : (جيلكم لا يفهمنا ، ولا يفهم الحب ، ونحن
لا نريد أن نكون فلاسفة أو سياسيين ، نحن نريد فقط أن نغني ونرقص ونحب البلاد على
طريقتنا..) وتعلق ليلى على إحدى الأغاني
الشبابية قائلة (هذه ليست عيساوة إنها صلاة بوذية) [15]
انظر
ص 267
ومن
مظاهر الشعرية في (القوس والفراشة) قيام معظم أحداث الرواية على الحلم والتخيل من
خلال حضور صورة ياسين التي ظلت تلازم السارد في حله وترحاله :( بمجرد ما قتل
ياسين، أصبح الطفل الأبدي الذي أحمله وأعيش به كل تفاصيل حياتي اليومية فقد تحول
إلى كائن يلازمني ، يخرج من عتمته كلما قرر ذلك ويجلس إلى طاولتي ، أو يتربع على
كتفي ، أو يخزني فجأة ليسرّ لي بخبر أو تعليق ويجلس أحيانا على حافة سريري ليستقبل
يقظتي بمناقشة صاخبة . فبظهوره اليومي لا يتجاوز عمر ياسين سنة واحدة أما صوته فهو
صوت الشاب الذي ودعني في محطة القطار ، كنت أتحدث معه لساعات ، وأنا أعبر المدينة
من باب تامسنا حتى مشارف النهر ، مرورا بشارع النصر وشارع مولاي يوسف ، وساحة
العلويين ,سوق الزهر إلى شارع الجزائر حيث يوجد مقر الجريدة التي أشتغل بها)[16]...
ظل طيف ياسين يكلمه،يقتحم عليه وحدته، يناقشه في مختلف القضايا والنوازل التي
يعيشها... أكثر من أية شخصية أخرى في واقعه
هذه إذن بعض الجوانب التي تعكس بوضوح
كيف جعلت رواية القوس والفراشة من الشعر والشعرية مادة لمتنها الحكائي منذ
أن فقد صدّر المؤلف روايته وقبل أن يُلقي القارئَ في عباب تفاصيلها ببيت للشاعر الألماني هولدرلين يقول
فيه
ليس شيئا بالنسبة لي
ما لا يمكنه أن يكون لي كلا إلى الأبد
ألى
أن افتتح سرد أحداث الرواية بما يمكن أن يفعله الشعر بالقارئ ، ففي أول جملة يبرز
السارد كيف أثرت فيه رسالة من سطر واحد (عندما قرأت الرسالة بسطرها الوحيد ، وخطها
المرتبك ،اخترقتني قشعريرة باردة ، ونأيت عن نفسي، لحد لم أعد أعرف معه كيف أقطع
الذهول الذي أصابني، وأعود إلى نفسي. وعندما عدت أخيرا بعد جهد قاهر، لم أجد شيئا،
كنت قد أصبحت شخصا آخر يخطو لأول مرة في أرض خلاء...) أي قوة وأي تأثير لهذه
الرسالة ذات السطر الوحيد لكي تحدث كل هذا التأثير في هذه الشخصية فتجعله يفقد حاسة
الشم ، يستقبل الأشياء بنوع من اللاإحساس، وتجعل الأشياء سواء (لم أعد أحس بأي أثر
للألم، أو للذة أو الجمال... ) الكلمات الشعرية وحدها قادرة على خلق الصدمة ، فتصب
المتلقي بحالة يعجز التعبير عنها : (لم أعد أوصل شيئا للآخرين،لا فكرة ، لا
تعليقا، لا مزحة ، ولا تعبيرا من أي نوع ... كنت عاجزا تماما عن إبلاغ أي شيء ،له
علاقة بالإحساس ، لأني ببساطة لم أعد أحس
بأي شيء)[17] ألم يقال (إن من البيان لسحرا) ؟؟
وإذا كانت أحداث الرواية قد وسمت ، كما بينا، بلمسة
شعرية انطلاقا من العنوان إلى مفتتح
الرواية مرورا بمختلف أحداتها، وطريقة معالجتها القضايا ، واستحضار شخصيات شعرية،
فإن المؤلف اختار أمكنة غير مناسبة لتلك
الشاعرية، فتنقل بشخصياته بين عدة مدن،
مقاهي ،فنادق، حانات، ساحات.. تنعدم فيها الشاعرية، فقد اختار أن تدور
أحداث الرواية في مدن تشهد إعادة هيكلة ، وتعيش مرحلة تحول سواء في زرهون، مراكش
والرباط التي تشهد ( الرباط إنجاز مشاريع كبرى، مدنا جديدة وساحات مناطق سياحية
متاحف قاعات...)[18] ، فتعلق ا بالآمال ومقتنعا بضرورة إنتاج أكبر
ما يمكن من الجمال لأن ذلك، في نظره، هو السبيل
الوحيد للانتصار على اليأس [19]
لكن شيئا من ذلك لم يحقق ما كان يصبو إليه.. فوجدناه يصب جام غضبه على برجوازيي المدينة (الرباط) الذين
لا يتذوقون الجمال ولا يستمتعون بكل ما هو شاعري لتركهم شواطئ النهر والبحر تكونت
فيها المزبلة والبراريك (في أماكن تعد أجمل ما انفردت به الرباط من ثروات طبيعية
بينما راحت برجوازيتها عديمة الخيال تمتد في الأراضي المنبسطة لطريق زعير..)[20] كان السارد في البداية أكثر تفاؤلا بإعادة
تهيئة ضفتي أبي رقراق يأمل أن مشروع (منتزه أبي رقراق بعدما يتم إنجاز المرفأ
الترفيهي ، الأرصفة والشقق المفروشة، والفنادق الكبرى، والمطاعم والمقاهي وصالات
الألعاب والعرض ... سيصبح المنتزه مصنعا لإنتاج الحكايات ومرتعا للحب والمغامرات،
والثروات والخسارات وسهرات النجوم ،
وحفلات المجتمع الراقي ... سيصبح النهر نفسه سمكة تنام عند مطلع الفجر...)[21] ورغم هذه النزعة التفاؤلية، والرؤية الشاعرية
التي كان يستشرف بها المستقبل ، فإن الواقع كان يصدمه فيرى في أحلك الأمكنة فضاءات
شاعرية جاعلا من مزبلة المدينة سلطانا
يتربع على عرشه في أفضل مكان بالجهة الشرقية للمدينة مستمتعا بمنظر النهر (تربعت مزبلة عكراش بنفاياتها،حرائقها،
أدخنتها وروائحها الزاكمة على هذا الجزء الشعري من العاصمة المهملة)[22]...
والمقبرة التي يقطنها الأموات متربعة على أحسن مكان بالمدينة بالجهة الغربية
منتشية على إيقاع أمواج البحر متسائلا في
استغراب ماكر (ما هي هذه الأمة التي تدفن الموتى في أجمل مكان يليق بالأحياء)[23]
قد يعتقد القارئ أن من وصف المزبلة (رمز
الروائح الكريهة والمتلاشيات من
الأشياء) والمقبرة (رمز الموت والمتلاشيات
من الأجساد البشرية) كفضاءات بهذه الأوصاف و هذه التعابير الشعرية.. أنه لن يذخر جهدا في سكب شاعريته على أمكنة
يفترض فيها أن تكون أحسن من المزبلة والمقبرة... لكن عند تعقب أوصافه للفضاء
الروائي نجده يقدم صورة مخالفة تماما
لشعرية اللغة ، وكأنه كا يتغيى بلغت الشعرية إخفاء أزمة الفضاء الذي يعج بالتناقض الصارخ ، سواء كان هذا الفضاء
بالبادية كما هو الشأن في ساحة هذا الموسم الديني الذي تتعانق فيه الآلام
بالآفراح، وتتفرق فيه أهواء الناس وطموحاتهم كل يعيش طقوسه وشطحاته في عالمه
الخيالي غير دار بمن حوله يقول السارد
واصفا مشهدا من هذا العالم الصوفي الشاعري المتناقض: ( منهم من يتفرج على طقس
الدم، عندما يعمد بعض المجاذيب إلى تكسير القلل الطينية على رؤوسهم الحليقة،
وإعمال الشواقير الحادة في تلك الرؤوس المترنحة على إيقاع الدقة الحمدوشية ، ومنهم
من يمرر قطعة خبز على الجروح الغائرة ، ومنهم من يذبح معزة في لجة للا عيشة أو
يعلق قطعة ثوب على شجرتها المقدسة ... لا أحد يسأل أحد، ولا أحد يحشر نفسه في ما
لا يعنيه، ولا أحد يستطيع أن يتوقع بالضبط ماذا سيجري في البيوت المغلقة إذا أقبل
الليل واستقرت الجذبة الحمدوشية في رتابتها الآسرة من يتزوج من؟؟ ومن يطأ من في هذه الغابة
البهيمية؟؟) [24] هكذا يغدو المكان له
خصوصيته وسلطته التي تحضن متناقضات لا
يجمعها عقل ومنطق، وحده المكان يخلط هذه الأشياء في خلطة سحرية شعرية فتتكون ، ( هناك كمياء غامضة تجعل أشياء متناقضة تخرج من نفس
النبع . هذا موسم يقام احتفاء بالمولد النبوي، حول ضريح .. أحد كبار متصوفة المغرب
، يصبح جهة وملاذا لطقوس المثليين والعرافين. في نفس الأمكنة وانطلاقا من نفس
المشاعر الروحية تلتقي ابتهالات المتعبدين ، بصخب الأجساد المضطربة.. كل ذلك يتم
تحت الطقس الشعبي المنوط بعائشة مولات الواد .. التي استقدمها سيدي احمد
الدغوغي ليعقد لشيخه سيدي علي عليها ويضع حدا لعزوبيته فلم
يكن له ذلك ... لماذا لم يتزوج سيدي علي أبدا ؟؟ ولماذا يتزوج المثليون حول ضريحه؟.)
[25]
كان
منتظرا، وفقا للغة الرواية الشعرية، أن يقدم المؤلف الأحداث في مدن وفضاءات أكثر
شعرية مادام قد قدم المقبرة،المزبلة
وساحات المواسم الشعبية بهذه الهالة القادرة على تحطيم الفوارق ، وعيش
الناس بوهيميين لا يهمهم أراء الناس من حولهم.. لكن سرعان ما يخيب أفق الانتظار و
تفاجأ مواقف الشخصيات من الأمكنة قُراء الرواية هكذا لا يرى السارد في الرباط
العاصمة الإدارية التي يفترض فيها أن تكون واجهة البلاد وأكثر مدنها نقاوة (سوى حيزبون
أندلسية ناصعة البياض لا يسعفها التزويق بأي طعم ) وأضاف مجيبا عن سؤال إذا ما كان
يحب أو يكره الرباط قائلا ( لا أحبها ولا أكرهها ، فقط أجدها "باسلة"
كما تقول أمي )[26] مقابل ذلك كان مغرما
بمدينة مراكش يعتبرها ( مرفأ يهدأ فيه من عواصف الدنيا ) .. وعلى النقيض من ذلك
كانت مواقف ليلى عشيقة السارد ترى في
الرباط (مدينة ساحرة،غامضة وحالمة وبها نهر ، لا أحب المدن التي بلا أنهار كأنها
مدن لا تبكي) لذلك فهي تكره المدينة الحمراء ( لا أحب مراكش أجدها متصابية وتضحك
بلا سبب)[27] بدعوى أنها (
لا تريد مدينة نحتاج في تعريفها لكل هذه الألاعيب اللغوية)
إن اختلاف المواقف من المدينة يعكس نوعا من
المعاناة الداخلية بين عشيقين يفترض فيهما
الحنين لنفس المكان وربط وشائج علائقية به تزيد علاقة قوة .. ولا يقف التناقض في
المواقف من الأمكنة والمدينة بين الشخصيات بل يتجلى هذا التناقض لدى الشخصية
الواحدة ، فالسارد المغرم بمراكش ألفيناه يعلن لزوجته في قمة صفاء العلاقة
بينهما وقبل انفصالهما أن ( هذه المدينة (مراكش)
لا تصلح لقصتنا إنها عبارة عن زخرف كثيف وطلاءات متراكبة أما نحن فنعيش حكاية
بيضاء .. مثل حديقة يابانية لا نبات فيها ولا ألوان مجرد قطع صخرية متراصة ترقص في
عتماتها ملايين النبضات العذبة ) [28]
يغير موقفه من المدينة 180 درجة ويبرر موقفه بقوله ( إن المرأة التي تستطيع أن
تسقط من حياتك مدينة كورقة ميتتة ،فمعنى ذلك أنها بنت في دواخلك مدنا بلا حساب..
كدت أقول لها ذلك لكن الخواء الذي يسكنني عاد من جديد ليقتل البذرة في مهدها)[29]
على العموم ، ورغم الصور الشعرية التي وظفها
السارد لرسم أبعاد بعض الأمكنة ، فإن معظم
شخصيات الرواية كانت لها مواقف سلبية من المدينة فبعضهم رأى أن مدننا فقدت هويتها،
وآخرون تحدثوا عن ترييف المدينة، واقتنع
آخرون أن المدينة أصبحت هجينة بعد أن توافدت عليها قبائل الأعراب يرثي احد الأبطال
نعيم سلا الزائل و ندرة سكانها الأصليين أما زحف البدو على المدينة فيقول (حتى
أصبح النسل الأندلسي شعرة ضائعة في شعكوكة
من الأخلاط )[30] ، ورأى أخرون أن جمال
المدن لا يهم في شيء، أمام ضرورة توفير اللقمة للجائع، واللباس للعاري، والدواء
للمريض يقول احد الشبان من أبطال الرواية: (الشعب يحتاج الخبز
والدواء وليس إلى عاصمة جميلة)[31]
.. ولا يقف هذا الموقف السلبي من المدينة على المدن المغربية فقط بل يمتد إلى مدن
بعيدة جدا ، فالسارد يرى (أن هافانا لا
تصلح أن تكون حلما ،إنها مجرد سجن يشبه حانة الفرسيوي..) وهو ما أكدته له فاطمة من
عين المكان بكون هافانا ( إنها مدينة ... بها متسكعون وسكارى وحالمون وبشر يكدون
من أجل لقمة العيش ورقصة عابرة،... ليس لها سوى الليل)[32]
الرواية تعكس بحق أزمة المدينة في المغرب ولعل أصدق
تعبير عن هذه الأزمة قول ياسين لأبيه (ياسين ذلك الصوت الخفي والضمير المؤنب الذي
ظل يلاحق السارد) : ( ربما استخرجت مدينة من أحشائك؛ خليطا من زرهون ودوسلدورف
،والرباط، وبومندرة وفرانكفورت ، وبوضيرب، ومراكش ...) فكانت المدينة في
الرواية ضائعة بلا هوية.. فقدت وظيفتها فشلت في احتواء أبنائها فعجز الشباب عن
الاندماج في أجوائها ؛ فتفرقت بهم السبل ؛ وقد يتقلب الشاب بين عدة اتجاهات
متناقضة : هكذا تقلب التوأم عصام ومهدي اللذين يتابعان دراستهما في الأقسام
التحضيرين في وقت وجيز بين الموسيقى
الصاخبة( تكوين مجموعة أرت روز الفن الوردي) وبين الأغاني الدينية والنزوع نحو سلوكات ( تمزج بين صوفية سنية وطقوس
شيعية..وأخرى من ديانات وحركات روحية مختلفة ..)، فغدت المدينة فضاء لإنتاج الإرهاب والمثليين، والحاقدين على
الأوضاع وعبدة الشيطان المهوسين بموسيقى الهارد روك،والهيفي ميتال، والتراس ،
والبلاك ميتال.. وأسسوا مجموعات غنائية تحاكي المجموعات العالمية مثل أرتروز، دم
الأفعى، العين المفقوءة ، الغربان... فوقف الآباء مكتوفي الأيدي أمام توَهان
أبنائهم عاجزين عن مساعدتهم وكسب ودهم، وفهمهم ، مما ولد حقدا بين أفراد الأسرة
الواحدة فكان عصام يعلن( أنني سأقتل هذا الوغد) في إشارة لأبيه، مما جعل السارد
يستفسر ليلى عن (كل هذا الحقد.. كأن إبراهيم ربى أفاعي سامة في فراشه وليس درية
بريئة؟)[33]
وكأن المدينة قد كشرت عن أنيابها وأصبح الحياة فيها مخيفة ومافتئ السارد يعلن
تذمرة من ( الحياة التي لا ترضى بغير تدميرنا) بعدما سادت قيم وعادات غير مألوفة
ومجموعات شابابية غريبة الأطوار في لباسها وتذوقها للفن والحياة كمجموعة الغربان
التي يفضل أعضاؤها ألبسة سوداء ، يضعون أساور حديدية في معاصمهم وخواتيم بأظفار
مخلبية، وأقراط في أذانهم وأنوفهم وحواجبهم.. يعيشون في حالة سكر وتخذير معهم فتيات اشتهرن بأسماء غريبة بسراويل تكشف عن السرة وجزء كبير من الردفين .. يعيشون حياتهم في طقوس غريبة و سهرات يرددون
فيها ما يدعو إلى( السخرية من المسيح ، وتحريض على الحرية الجنسية ، واستحضار للذة
والموت والعنف في طابع استعراضي ) ينتهي في بعض الأحيان بإتمام السهرة في المقبرة حول شمعة مثبتة في
جمجمة من البلاستيك وتبادل القبل ( ثم الاستلقاء على قبر ومصاحبة الموسيقى الصاخبة
برقصة تكاد نكون ممارسة جنسية) [34]
وأما
ازدحام المدينة وضيقها بسكانها حاولت الرواية إبراز انجذاب السارد نحو الأمكنة
المغلقة والأمكنة الخاصة، ففضل أن يحقق في شقته الجديد أمانيه وكل أحلامه في
: ( أحقق رغبة تسكنني منذ المراهقة في أن
يكون لي بيت خاو أبيض دون جدران تقريبا وكذلك كان)[35]
وكأن في النفس حنينا للاتساع والرحابة الذين فقدتهما المدينة( حجزت مكانا وضعت فيه
غرفة النوم و الحمام وجعلت الباقي كله فضاء واحدا بشرفة ضخمة تمتد على الواجهة
الغربية ) وعلى الرغم من أن هذا الفراغ لم يعجب أحدا من أصدقائه بمن فيهم ليلى فأنه
صمم على تنفيذ فكرته التي ستغرم بها ليلى التي سرعان( ما وقعت في غرام شقتي منذ الليلة
الأولى) [36]
انتظرونا
في الجزء القادم نناقش فيه اهتمام العربي بمنزله الخاص من الدخل دون فضاءات
المدينة العامة من خلال رواية القوس والفراشة
شعرية اللغة وأزمة المدينة في رواية القوس والفراشة لمحمد الأشعري (ج2)
بواسطة Unknown
on
5:36 ص
القسم:
ليست هناك تعليقات: