الحداثة الشعرية العربية ج2


ذ. الكبير الداديسي - ميادين أسفي
بعد أن أشرنا في الجزء الأول لمعاني الحداثة   ووقوفنا على الحداثة الشعرية  العربية المفهوم والمصطلح والسياق التاريخي  ،  وجدنا أنفسنا أمام عدد من المصطلحات التي تتداخل ومفهوم الحداثة ،  خاصة مفهوم المعاصرة لدرجة يكاد معها  لا يخلو  أي موضوع حول الحداثة من إشارة إلى مصطلح المعاصرة، والمقارنة بين المصطلحين ، حتى أصبحت المعاصرة جارة الحداثة وربيبتها  التي لا يمكن أن تفترق عنها، أثناء كل حديث عن التحديث والتجديد في الشعر بالخصوص، من هذا المنطلق نجد أنفسنا مضطرين للتعرض إلى ثنائية الحداثة/المعاصرة.
يذهب الكثير من الباحثين إلى ربط الحداثة بالعصر الحديث، ومن ثم إعطاؤها نفس دلالة المعاصرة. وهو أمر يبدو مجافيا للصواب، وبالتالي ضرورة التفريق بين المصطلحين.
فمصطلح المعاصرة يفرض طرح سؤالين: الأول يتعلق بمعنى المعاصرة، والثاني يرتبط بعلاقتها مع التراث، والمتمعن يرى أنهما سؤالان متصلان إذ "لكي تكون عصريا لا بد أن تحدد موقفك من التراث" ويجيبنا زكي نجيب محمود ببساطة أن جميع الشعراء الذين يعيشون بيننا عصريون فقط لأنهم أبناء هذا العصر. وللمعاصرة شكلان يختلف أحدهما عن الآخر اختلافا واضح المعالم: شكل سطحي يحاول الشاعر فيه أن يتحدث عن مبتكرات ومخترعات عصره، وتركيباته الاجتماعية والسياسية... معتقدا أنه يمثل عصره ويصوره وينقله للمتلقي، بل ويظن أنه يشارك في سيرورته وتطوره. كل ذلك بأشكال وأساليب وتراكيب بل ورؤى قديمة تجعل الشاعر يعيش بعيدا عن هذا المجتمع. فليس المجدد المعاصر من عرف الطائرة والصاروخ والسيارة والمذياع وكتب عنها، وإنما قد يكون مجددا وهو يتحدث عن الناقة والفرس والكرم والشجاعة، إذ أن المجددين هم "الذين يهيئون للتراث الاستمرار والحيوية لا أولئك الذين يحنطونه بالتكرار والتقليد فيحكمون عليه بالعقم". 
وشكل مغالى فيه ينادي ويطلب بالعصرية المطلقة والانفصال التام عن التراث، مع التسليم بالفساد لكل القيم التقليدية، والبحث عن تحطيم قدسية التراث. كانت بداية هذا الشكل منذ الصرخة الواضحة التي أطلقها رامبو "لا بد أن نكون عصريين بشكل مطلق "ومعنى هذا أنه ينبغي أن تعكس أشعار هؤلاء، بصورة مرؤوية، شهورهم بالظواهر المعاصرة كالآلة والمدينة الصناعية...
إن هذا الشكل يشكل موقفا عدائيا ورافضا مباشرا للتراث، وتجدر الإشارة إلى أن فكرة الحداثة غير مرتبطة بالمعاصرة، إذ أن الحداثة "تتضمن تخصيص حصول الواقعة في نقطة محددة من محور الزمن الطبيعي، من هذا المنطلق يمكن لنقطة الحداثة أن تتعين في أي مجال من مجالات محور الزمن الطبيعي، والمهم أنها إذا تعينت قسمت محور الزمن إلى سابق ولاحق، هي التي تتوسطهما بنفسها، ولكننا نعلم من جهة أخرى أن الزمن الفيزيائي منقسم بصفة دائمة ومستمرة بين ماض ومستقبل، تتوسطهما لحظة الحاضر التي هي دائمة التحول طبيعيا، بحيث تكون نقطة الصفر، ويرمز للسابق بعلامة(+) واللاحق بعلامة(-)" انطلاقا من هذا النص يمكننا أن نضع هذه الترسيمة:

قديم
الحداثة
حديث
-
o
+

ماض
المعاصرة 
مستقبل
-
o
+

لنفترق بين مصطلحي الحداثة والمعاصرة، ولنبين أنهما مختلفان. فالحداثة ليست هي المعاصرة ولا مرتبطة بالزمن لأنها لو كانت كذلك لفقدت صفتها بمجرد مرور قليل من الزمن.
من هنا تبدو ضرورة الفصل بين مصطلحي الحداثة والمعاصرة. فالمعاصرة (contemporaine) إذن مصطلح ينطبق على الزمن ليس غير، وهو محايد الإحالة ليس محملا بأية حساسية إيديولوجية، ولا يضم أي حكم قيمة. بينما الحداثة (modernité )  تعني الأسلوب والحساسية والوعي الجديد بمتغيرات الحياة، إنها من هذا المنظور تتضمن حكما ووصفا نقديا. إن الذين يوحدون بين الحداثة والمعاصرة وبالتالي يربطون الحداثة بالعصر الراهن، مؤمنون بأن ما يجري الآن أفضل مما كان، وأن الآتي أحسن من الحاضر، وهي نظرة تركز على الزمن لا على الإبداع على الشاعر لا على إبداعه. ومن الخطأ أن نربط الحداثة بالمعاصرة أو بالزمن لأن من الحداثة ما يسبق الزمن ومنها ما يسايره ومنها ما يتاخر عنه.
وإذا كان الأمر كذلك فما الذي يجعل من النص نصا حداثيا:
سؤال كثيرا ما لاكته الألسن وطرح في الصحف والمجلات، ويبدو سؤال بسيطا، لكن عند طرق باب الأجوبة ترصد في وجهنا كل الأبواب لأن كل الأجوبة لم تتمكن من وضع الملح على الجرح، ولم تستطع تسييج كل ظاهرة إبداعية لتموضعها في محلها اللائق بها. فغذى السؤال سؤالا فضفاضا بلا ضفاف لكثرة استهلاكه، أجوف فاقدا لحيوية عناصره، وحتى لا تبقى دار لقمان على حالها نعيد طرح السؤال آملين أن نجد له جوابا يرتاح له المسائل ولو نسبيا.
1- هناك من حاول ربط النص الحديث بالعصر الراهن باعتباره الإطار الذي يحوي حركات التغير والتطور والإنسلاخ عن السلف –ومن تم فهو معادل للنص المعاصر- ونظرة هؤلاء للإبداع نظرة مثالية تجريدية شكلية تؤكد على الزمن، وتهمش الفن، تقبض على الشاعر وينفلت منها قوله بل تركز على السطح ولا تستطيع الغوص إلى الأعماق، إنها بكل بساطة نظرة تفضل النص الحديث، على شقيقه القديم وتتجاهل أن التحديث في الشعر ليس متزامنا دائما وبالضرورة مع "حداثة" الزمن، فالنص الشعري لا يكتسب حداثته من زمنيته وإنما يكتسبها من بنيته ذاتها.
2- وهناك من يرى أن النص الحديث هو ما يقع في الضفة المغايرة، او الجانب المناقض للنص القديم، ويقصرون تحديثيته على كونه مغايرا للنص الجاهلي او العباسي... إما في الشكل أو المضمون، فإلى هؤلاء نقول إن هذه الفكرة فكرة آلية تعتمد كأساس لها، فكرة إنتاج النقيض ومن هنا تقصر الإبداع في لعبة التضاد.
فالنظرة الأولى تضاد الزمن بالزمن وهذه تضاد النص بالنص هكذا مع هؤلاء يصبح الشعر ينفي بعضه بعضا مما يبطل معنى الشعر وإبداعه على السواء.
3- ونجد من الباحثين من لهم منطقهم الخاص، إذ يرون أن النص الحديث لا يكون حديثا إلا إذا كان صورة طبق الأصل للشعر الغربي. ويجب –إذا أراد النص العربي أن يكون حديثا- أن يحتذي الغرب في مقاييسه وأشكاله ومضامينه. وهي نظرة تنطلق من فكرة "المركزية الأوربية" وتقر –شاءت أم كرهت- بتفوق مسبق للغرب، ويعلنون تأخر الشعر العربي عن اللحاق بالشعر الغربي. إنهم يقعون في الاستلاب الكامل إلى درجة الذوبان في الآخر. ومن هنا ينفون خصوصية الشاعر العربي. ولا يصبح غير معيد أو مجتر لنجاح الآخر.
4- وهناك من الباحثين من يذهب إلى أن النص الشعري الحديث، هو الذي يخرج عن الأوزان القديمة. وأصحاب هذا الرأي هم المتحمسون لما سمي بـ "قصيدة النثر" باعتبارها –في رأيهم- تمثل تماثلا كاملا مع الكاتبة الشعرية الغربية، وتتنافى ومعمارية الكتابة الشعرية العربية. وهذه المقولة تنسى أنها تركز على أداة من أدوات الشعر ولا تعير أي اهتمام لجوهر الشعر.


5- إلا أن هناك من الباحثين من يقصر حداثية النص في كونه يعكس ويتناول قضايا عصره ومخترعاته وانجازاته. فهي رؤية ساذجة، لأنه قد يحدث أن يعبر الشاعر عن كل هذه المضامين لكن برؤى تقليدية، فالمواضيع لا تحدد الحداثة في النص، فلا ينبغي لنا البحث عن الحداثة في الأدوات.
 نكتفي بهذه المواقف والآراء –على سبيل التمثيل لا الحصر- التي حاولت الإجابة عن هذا السؤال وان تنسج له ثوبا يحميه شر التيارات الجارفة، إلا أنها عجزت عن ذلك وبقي السؤال عاريا يتطلب منا حقه من الثياب. وسنحاول –قصارى جهدنا- أن ننسج لهذا السؤال ثوبا يقيه. ونطرح السؤال بصيغة أخرى تقربنا من الدخول في الجواب: ماذا يميز النص الحديث عن القديم؟ إن حداثة النص الشعري تشكل موقفا قبل كل شيء، ويتضح ذلك في أنه يجب على الشاعر أن يعبر عن تجربته الحياتية الحقيقية كما يعيها بعقله وقلبه على السواء. أي أن يكون النص تعبيرا عن روح العصر، لا انعكاسا مرآويا، وذلك باستخدام الصورة الحية القائمة في التاريخ والحياة، بشكل يحاول الانفلات من قبضة الأنماط والقوالب الموروثة، بل واستبدال التعابير والمفردات القديمة بمفردات جديدة، لا نقصد المفرد بالمعنى الحرفي، وإنما نقصد اللغة الشعرية باعتبارها إحساسا ووعيا مقصودا، تفرض نفسها فوق الرسالة التي تتضمنها وتعلن نفسها بشكل سافر. ها هنا تخرج الألفاظ عن كونها مجرد وسائل، غنها تتحول من الدوال إلى المدلولات، ويصبح كل شيء مقصودا وله معنى: الكلمات، ترتيبها، أشكالها الداخلية والخارجية... إننا لا نريد أن نقر أن الكلمة تكسب هذه القيمة بمعزل عن السياق العام للنص، بقدر ما نؤكد أنها لا تكتسب الوظيفة إلا من خلال حضورها ضمن بنية تعبيرية تحدد إيماءاتها الدلالية في جسد النص. 
ففي النص الحديث يصبح كل شيء له معنى حتى البياض أو الصمت اللغوي، فإنه ليس بريئا بل إنه أصبح أحد المعالم المميزة للقصيدة الحديثة. وله صور مختلفة، وفي كل الصور لا يقتصر الإبداع على المبدع، وحده، إن النص الحديث يحاول إشراك القارئ في دلالة النص الغائبة المتمثلة في الصمت إذ أن اللغة، "لا تقدر أن تتجاوز سطح التجربة أما الباقي فيظل خارج اللغة يلفه الصمت".
والشعر الحديث يهدف إلى تطوير الإيقاع، وتحطيم قدسية الأوزان القديمة، لكن ليس هدفه وغايته في تحطيم هذه الأوزان فقط، وإنما في صقلها لتطابق المضامين الجديدة، فينبغي في النص الحديث أن يكون الشكل مطابقا للمضمون بل ومعبرا عنه ورغم أن النص الحديث يهدف للتمايز عن النص القديم فإنه ما ينفك بغوص في أعماق التراث وفهمه والتفاعل معه باستخدام الإيحاءات التاريخية والأسطورية والفلكلورية ما دام هدفه هو تعميق الفكرة.

الحداثة الشعرية العربية ج2 الحداثة الشعرية العربية ج2 بواسطة Unknown on 2:41 م القسم: 5

ليست هناك تعليقات: